الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)
وإذا تركت الهوى قلت: إن هذا الكتاب بديع في إغرابه، وليس له صاحب في الكتب فيقال: إنه من أخدانه أو من أترابه، مفرد بين أصحابه، ومع هذا فإني أتيت بظاهر هذا العلم دون خافيه، وحمت حول حماه ولم أقع فيه، إذ الغرض إنما هو الحصول على تعليم الكلم التي بها تنظم العقود وترصع، وتخلب العقول فتخدع، وذلك شيء تحيل عليه الخواطر، لا تنطق به الدفاتر.واعلم أيها الناظر في كتابي أن مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم، الذي هو أنفع من ذوق التعليم، وهذا الكتاب وإن كان فيما يلقيه إليك أستاذا، وإذا سألت عما ينتفع به في فنه قيل لك هذا فإن الدربة والإدمان أجدى عليك نفعا، وأهدى بصراً وسمعاً، وهما يريانك الخبر عيانا، ويجعلان عسرك من القول إمكانا، وكل جارحة منك قلبا ولسانا، فخذ من هذا الكتاب ما أعطاك واستنبط بإدمانك ما أخطاك، وما مثلي فيما مهدته لك من هذه الطريق إلا كمن طبع سيفا ووضعه في يمينك لتقاتل به، وليس عليه أن يخلق لك قلبا، فإن حمل النصال، غير مباشرة القتال. ولنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول: أما مقدمة الكتاب، فإنها تشتمل على عشرة فصول:
وهذا مما يعجب منه.وسئلت عن ذلك فقلت: لا عجب؛ لأن المقامات مدراها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص. وأما المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له؛ لأن المعاني تتجدد فيها بتجدد حوادث الأيام، وهي متجددة على عدد الأنفاس، ألا ترى أنه إذا خطب الكاتب المفلق عن دولة من الدول الواسعة التي يكون لسلطانها سيف مشهور، وسعي مذكور، ومكث على ذلك برهة يسيرة لا تبلغ عشر سنين، فإنه يدون عنه من المكاتبات ما يزيد على عشرة أجزاء، كل جزء منها أكبر من مقامات الحريري حجماً؛ لأنه إذا كتب في كل يوم كتاباً واحداً اجتمع من كتبه أكثر من هذه العدة المشار إليها وإذا نخلت وغربلت واختير الأجود منها إذ تكون كلها جيدة فيخلص منها النصف، وهو خمسة أجزاء، والله يعلم ما اشتملت عليه من الغرائب والعجائب، وما حصل في ضمنها من المعاني المبتدعة، على أن الحريري قد كتب في أثناء مقاماته رقاعاً في مواضع عدة، فجاء بها منحطة عن كلامه في حكاية المقامات، لا، بل جاء بالغث البارد الذي لا نسبة له إلى باقي كلامه فيها وله أيضاً كتابة أشياء خارجة عن المقامات، وإذا وقف عليها أقسم أن قائل هذه ليس قائل هذه، لما بينهما من التفاوت البعيد.وبلغني عن الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد بن الخشاب النحوي رحمه الله أنه كان يقول ابن الحريري رجل مقامات: أي أنه لم يحسن من الكلام المنثور سواها، وإن أتى بغيرها لا يقول شيئا.فانظر أيها المتأمل إلى هذا التفاوت في الصناعة الواحدة من الكلام المنثور، ومن أجل ذلك قيل: شيئان لا نهاية لهما: البيان، والجمال.وعلى هذا فإذا ركب الله تعالى في الإنسان طبعا قابلا لهذا الفن فيفتقر حينئذ إلى ثمانية أنواع من الآلات.النوع الثاني: معرفة علم العربية من النحو والتصريف:النوع الثاني: معرفة ما يحتاج إليه من اللغة، وهو المتداول المألوف استعماله في فصيح الكلام غير الوحشي الغريب ولا المستكره المعيب.النوع الثالث: معرفة أمثال العرب وأيامهم، ومعرفة الوقائع التي جاءت في حوادث خاصة بأقوام، فإن ذلك جرى مجرى الأمثال أيضا.النوع الرابع: الاطلاع على تأليفات من تقدمه من أرباب هذه الصناعة المنظومة منه والمنثورة، والتحفظ للكثير منه.النوع الخامس: معرفة الأحكام السلطانية الإمامة، والإمارة والقضاء، والحسبة وغير ذلك.النوع السادس: حفظ القرآن الكريم والتدرب باستعماله وإدراجه في مطاوي الكلام.النوع السابع: حفظ ما يحتاج إليه من الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلوك بها مسلك القرآن الكريم في الاستعمال.النوع الثامن: وهو مختص بالناظم دون الناثر، وذلك علم العروض والقوافي الذي يقام به ميزان الشعر.ولنذكر بعد ذلك فائدة كل نوع من هذه الأنواع، ليعلم أن معرفته مما تمس الحاجة إليه فنقول:
وهذا لا يخفى على مثل أبي نواس، فإنه من ظواهر علم العربية، وليس من غوامضه في شيء لأنه أمر نقلي يحمل ناقله فيه على النقل من غير تصرف، وقول أبي نواس صغرى وكبرى غير جائز، فإن فعلى أفعل لا يجوز حذف الألف واللام منها، وإنما يجوز حذفها من فعلى التي لا أفعل لها، نحو حبلى، إلا أن تكون فعلى أفعل مضافة، وهاهنا قد عريت عن الإضافة وعن الألف واللام، فانظر كيف وقع أبو نواس في مثل هذا الموضع مع قربه وسهولته؟ وقد غلط أبو تمام في قوله: ألا ترى أنه قال: اطأدت، والصواب اتطدت، لأن التاء تبدل من الواو في موضعين: أحدهما مقيس عليه كهذا الموضع، لأنك إذا بينت افتعل من الوعد قلت: اتعد، ومثله ما ورد في هذا البيت، فإنه من وطد يطد، كما يقال: وعد يعد، فإذا بني منه افتعل قيل: اتطد، ولا يقال اطأد، وأما غير المقيس فقولهم في وجاه: تجاه، وقالوا: تكلان، وأصله الواو، لأنه من وكل يكل، فأبدلت الواو تاء للاستحسان، فهذه الأمثلة قد أشرت إليها ليعلم مكان الفائدة في أمثالها وتتوقى.على أني لم أجد أحدا من الشعراء المفلقين سلم من مثل ذلك فإما أن يكون لحن لحنا يدل على جهله مواقع الإعراب وإما أن يكون أخطأ في تصريف الكلمة، ولا أعني بالشعراء من هو قريب عهد بزماننا، بل أعني بالشعراء من تقدم زمانه، كالمتنبي ومن كان قبله، كالبحتري، ومن تقدمه، كأبي تمام ومن سبقه، كأبي نواس، والمعصوم من عصمه الله تعالى.على أن المخطئ في التصريف أندر وقوعا من المخطئ في النحو، لأنه قلما يقع له كلمة يحتاج في استعمالها إلى الإبدال والنقل في حروفها، وأما النحو فإنه يقع الخطأ فيه كثيرا حتى إنه ليشذ في ظاهره في بعض الأحوال، فكيف خافيه؟ كقول أبي نواس في الأمين محمد رحمه الله: فرفع في الاستثناء من الموجب، وهذا من ظواهر النحو وليس من خافيه في شيء، وكذلك قال أبو الطيب المتنبي: فجمع في حال التثنية، لأن الناقة ليس لها إلا ركبتان، فقال: ركبات، وهذا من أظهر ظواهر النحو وقد خفي على مثل المتنبي.ومع هذا فينبغي لك أن تعلم أن الجهل بالنحو لا يقدح في فصاحة ولا بلاغة، ولكنه يقدح في الجاهل به نفسه، لأنه رسوم قوم تواضعوا عليه، وهم الناطقون باللغة، فوجب اتباعهم، والدليل على ذلك أن الشاعر لم ينظم شعره وغرضه منه رفع الفاعل ونصب المفعول أو ما جرى مجراهما، وإنما غرضه إيراد المعنى الحسن في اللفظ الحسن المتصفين بصفة الفصاحة والبلاغة، ولهذا لم يكن اللحن قادحا في حسن الكلام، لأنه إذا قيل: جاء زيد راكب، إن لم يكن حسناً إلا بأن يقال: جاء راكباً، بالنصب لكان النحو شرطا في حسن الكلام، وليس كذلك.فتبين بهذا أنه ليس الغرض من نظم الشعر إقامة إعراب كلماته، وإنما الغرض أمر وراء ذلك، وهكذا يجري الحكم في الخطب والرسائل من الكلام المنثور.وأما الإدغام فلا حاجة إليه لكاتب، لكن الشاعر ربما احتاج إليه، لأنه قد يضطر في بعض الأحوال إلى إدغام حرف، وإلى فك إدغام، من أجل إقامة الميزان الشعري. |